
في حلقة أمس (الاثنين 8 كانون الثاني)، تناول برنامج “هوا الحرية” (LBCI)، قضية إجتماعيّة شائعة وشائكة، عنوانها العريض هروب “عطور” ابنة الـ15 عاماً مع خطيبها “جنيد” بغية الزواج منه في ظلّ اعتراض أهلها ورفعهم دعوى قضائية ضدّ الشاب بتهمة الخطف.
الفقرة استهلّها مقدّم البرنامج الإعلامي جو معلوف بمقدمة ذكّر فيها أنه وبرنامجه من أكثر المدافعين عن الحريات الشخصية وخيارات الأفراد طالما أنها لا تضرّ بهم، ومن ثمّ انتقل إلى عرض تقرير مصوّر عن قضية عطور وجنيد، وقد ظهرت الفتاة القاصر في الفيديو متوّجهة إلى ذويها بالقول: “إيه ماما، أنا بعترف انو عملت شي غلط بس انا كثير مبسوطة مع جنيد وبدي كفي حياتي معو، وترضي عليّ”.
داخل الاستوديو، كانت والدة عطور وخالتها، وسرعان ما حضرت القاصر مع خطيبها ووالدته. وما دار من نقاش وجدال واستعراض لبعض الحقائق والمشاعر لحوالي 45 دقيقة من الوقت، يستحق فعلاً التوّقف عنده، والتعمق فيه.
ولكن قبل التمعن في ما كشفته هذه الفقرة أو ما أعادت تسليط الضوء عليه من شواذات أو ظواهر أو موروثات مجتمعية، لا بدّ من إعادة طرح السؤال الأساس: هل من المحق معالجة مثل هذه القضايا في برامج إعلاميّة ومباشرة على الهواء وبالشكل الذي عولجت فيه القضية في “هوا الحرية”؟ أين الخطوط الحمراء وما هي فعلاً الأهداف؟!
والحال أنّ موضوع زواج القاصرات يجب أن يكون في سلّم أولويات أهل الإعلام المسؤولين مهنياً وأخلاقياً عن نشر التوعية والضغط في سبيل التغيير نحو الأفضل، لا سيّما وأنّ لبنان الرسمي والتشريعي لم يصل بعد إلى مرحلة تجريم زواج الأطفال (الذكور والإناث)، أي كل من لم يبلغ بعد سنّ الرشد العالمي (18 سنة)، بموافقة الأهل أو من دونهم، فيما لا تزال الطوائف هي الحاكمة بأمرها فعلياً.
بيد أنّ المسؤولية الاجتماعية الملقاة على عاتق الإعلاميين ليست مجزأة ولا هي استنسابية، وبالتالي فإن حماية القاصرين من مخاطر الأذية غير المباشرة أو غير المقصودة الناجمة من عرض حالاتهم والكشف عن هوياتهم كاملة أمام الرأي العام واستصراحهم (حتى لو كانت النيات سليمة)، هي بدورها ضرورية واساسية.
وعليه، قد يعتبر البعض أنّ إحضار القاصر إلى الاستوديو خطأ يتحمل مسؤوليته مقدم البرنامج والقائمون عليه بالدرجة الأولى، معتبرين أنّه يمكن إيجاد طرق بديلة أخرى تخدم الهدف من عرض القضية لكنها لا تضرّ بالفتاة في الوقت نفسه.
وبالفعل، من يتابع التعليقات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي، سوف يستوقفه قسمٌ كبير منها سلبيّ ومضرّ بالفتاة، إذ ثمة من حوّلها مادة للسخرية بسبب إصرارها على عدم ترك خطيبها، فيما اعتبرها آخرون وقحة، بل “فاجرة” تستحق العقاب والتحقير، من دون الأخذ بالاعتبار انّ هذه المتكلمة والمدافعة عن علاقتها ليس إلا طفلة تحاول التعبير عن مشاعرها ومواقفها (تجاه خطيبها وأهلها على حدّ سواء) على طريقتها “المفهومة” نظراً إلى سنّها.
أكثر من ذلك، فإن تعريض القاصر لموقف مفاجئ وصادم مباشرة على الهواء عبر دخول القوى الأمنية الاستوديو لإلقاء القبض على خطيبها (21 عاماً) بتهمة الخطف، لم يكن ابداً سليماً، علماً أنها هددت أكثر من مرة بأنها ستقدم على الانتحار في حال أُبعدت عن “جنيد”، وهذا الأمر ليس بمزحة، فبحسب علم النفس، كلّ تفكير بالانتحار أو التهديد به يجب أن يؤخذ على محمل الجدّ ويصار إلى متابعته فوراً.
وإذا كان هناك من دافع عن طريقة معالجة هذه القضية بالشكل الذي حصلت فيه على اعتبار أنّ “الصدمة” باتت ضرورية للتوعية ورفع الصوت ضدّ الزواج المبكر، وعلى قاعدة “فلتكن عطور عبرة”، إلا أنّ الأكيد أنّ الهدف الأساس كان تحقيق “سكوب” وجذب انتباه المشاهدين، علماً أنّ معلوف عاد وأقرّ لاحقاً بتحمله مسؤولية مشهد الاعتقال، محاولاً الإقرار بأنه كان يمكن تفاديه.
لكنّ الأمر حصل، وانتهى الموضوع. “عطور” سقطت ضحية مرة ثانية، بل ثالثة.
من يتابع مجريات الفقرة وتفاصيل المواجهات بين الطرفين (والدة عطور وخالتها من جهة وعطور وخطيبها ووالدته من جهة أخرى) سيعرف أنّ هذه الفتاة كانت ضحية أهلها في المرّة الأولى: مسؤوليات ألقيت على عاتقها وموافقة على أن تترك مدرستها. السماح بتخطيبها في سنّ الـ15 والإيحاء لها بأنها أهلٌ لاتخاذ قرارات بهذا الحجم (سألوها الموافقة)!
هي ضحية للمرّة الثانية، و”جلادها” خطيبها الذي حاول إبعاد مسؤولية الخطف عنه، إذ كرر أكثر من مرّة أنها هي من قررت الهروب معه وهي من أصرّت ونفذّت. أكثر من ذلك، توّجه الشاب في إحدى عباراته إلى والدة عطور بالقول :”عم احميلك شرفك”. نعم، لا تزال الفتاة هي شرف العائلة. والحال أنّ الشاب، وإن كان راشداً، هو بدوره ضحية مجتمع ذكوريّ وموروثات خاطئة تحطّ من شأن المرأة وتحملّها وزر الأخطاء. وهو ابن مجتمع لم يع بعد خطورة الزواج المبكر، ولا يزال يتقبّل ظواهر “الخطيفة” عند القاصرين.
وعطور سقطت أيضاً ضحية للمرة الثالثة عندما سُمح لها بالتحدث في قضيتها على الإعلام من دون وضع أي ضوابط أو خطوط حمراء، وصولاً إلى موقف الاعتقال.
فهل يستحق معلوف تصفيقاً حاراً على ما “اقترفه” بحق القاصر؟! الأكيد أنّ مقدم البرنامج جهد في رفع الصوت ضدّ الزواج المبكر وحاول التذكير بالقانون الذي يجرّم اختطاف قاصر بغرض الزواج منها. والأكيد أيضاً أنه لام أهل “عطور” لتخطيبها في سنّ مبكرة، بل دفع الوالدة والخالة إلى الإقرار بخطأ العائلة، وهذا أمرٌ لافت إذ عملياً لم تُجبر الأخيرة ابنتها على الزواج على غرار ما تفعل عائلات كثيرة للأسف بل لجأت إلى خطوة سائدة في عدد من المجتمعات اللبنانية (بصرف النظر عن خطورتها)، وهي، أي الخطوبة، ليست فعلاً جرمياً لا من ناحية القانون ولا من وجهة نظر كثيرين. ومع هذا، فقد أقرّت العائلة بأنها أخطأت، عسى أن تفهم الأسباب التي دفعت بالقاصر إلى الهروب من المنزل.
ولم يتردد معلوف في “توبيخ” عطور ومحاولة إقناعها بأن ما تفعله خطأ.
لكن هل يكفي هذا؟ ألا تستحق مثل هذه القضية معالجة أعمق وأكثر شمولاً بحيث يوضح الإعلاميّ أنّ قانون تجريم الزواج المبكر لم يبصر النور في لبنان بعد؟ وأنّ المطلوب تحديد سنّ للزواج حتى لو كان القاصر(ة) موافقاً(ة) أو كان ذووهم ايضاً موافقين؟! وأنّ مخاطر الزواج المبكر لا تقتصر فقط على تلاشي “الحبّ” أو تعرّض العلاقة الزوجية إلى مشاكل وصولاً إلى الإنفصال، بل تتعداها إلى مخاطر صحيّة تتعرّض لها المرأة إضافة إلى كلّ ما يعتلي هذه الخطوة من انتهاكات لحقوق الطفل والأعراف الدولية؟!
المصدر: لبنان 24